معضلة الشر- مفاهيم أساسية لفهم وجود الشر في الإسلام

لطالما شكلت مسألة وجود الشر تحديًا بالغ الأهمية للفلاسفة والمتكلمين على مر العصور، ولا تزال الأسئلة المتعلقة بها تثار بقوة، خاصة في أوقات الشدائد، والكوارث، والتحولات الجذرية التي تهزّ المسلمات وتعيق سير الحياة الطبيعي. فما هو المقصود بالشر تحديدًا؟ ولماذا يُنظر إلى وجوده على أنه معضلة حقيقية؟ وكيف جرى استكشافه تاريخيًا؟ وما هي أوجه التعقيد في استيعاب طبيعة الشر؟
في هذا المقال، سأسعى للإجابة عن هذه التساؤلات بإيجاز شديد، سعيًا لتقديم فهم مكثف لهذه المشكلة الفلسفية من خلال استعراض ثلاثة مفاهيم محورية تسهم في إلقاء الضوء على إشكالية وجود الشر.
أولًا: ماهية الشر
بالاستفادة من رؤى الفيلسوف ابن سينا، يمكننا التمييز بين مستويين في فهم مفهوم الشر:
- المستوى الأول: ثنائية الوجود والعدم: فالشر هنا يمثل العدم، بينما الخير هو الوجود. الأصل في كل الأشياء هو الخير، والشر لا يصيب إلا الأفراد أو الأشخاص وفي فترات معينة، في حين تبقى الأنواع محفوظة (مثل حفظ نوع الإنسان). ولكن، ربط الشر بالعدم يثير إشكاليتين أساسيتين:
- العدم يتفاوت في درجاته، فليس كل فقد أو غياب يُعتبر شرًا. فالمعدوم قد يكون ضروريًا أو نافعًا غير ضروري أو ثانوي. ولكن الشر يطلق على الضروري والنافع غير الضروري فقط دون الثانوي، فالعمى والتشوهات الخِلقية على سبيل المثال تعني فقد الشيء لكماله الجوهري الذي يعتمد عليه وجوده، وبالتالي تتصل بفقد ما هو ضروري، ولهذا تُعد شرًا. أما انعدام فضائل الشيء التي لا يؤثر غيابها على وجوده، فلا يُعد شرًا، لأنه انعدام لكمالات خارجة عن نطاق كمال وجوده. فالجهل ببعض العلوم والمهارات لا يعتبر شرًا، وإن كان نقصًا.
- الشر قد يرتبط بأشياء موجودة بالفعل، لكن هذه الموجودات "ليست شرورًا بالذات بل بالعرض". لأن كل فعل من هذه الأفعال الموصوفة بالشر سواء أكان طبيعيًا أم ناتجًا عن فعل بشري – إنما هو خير بالنسبة إلى فاعله، ولكنه يمثل شرًا بالنسبة إلى طرف آخر أو جهة أخرى.
يتضح مما سبق أن الشر هو إما "عدم جوهر أو عدم صلاح حال الجوهر"، وبالتالي، فإن المسألة تتمحور حول بلوغ الإنسان لمرتبة الكمال بقدراته المختلفة، سواء العقلية أو النفسية أو البدنية.
- المستوى الثاني: ثنائية اللذة والألم:
الخير والكمال يرتبطان باللذة أو بكل ما يؤدي إليها، بينما يرتبط الشر بالألم وكل ما يؤول إليه. وعلى الرغم من أن الآلام تنشأ عن أسباب مؤلمة، إلا أنها تتعلق بأمر عرضي، بمعنى أن المؤلم ليس كذلك في جوهره، وإنما بالنظر إلى المتألم به. إضافة إلى ذلك، قد يكون للألم مبرر إذا كان وسيلة لتحقيق خير أكبر منه، والسعي نحو تجنب المؤلم وتحقيق الملائم هو في جوهره سعي نحو تحقيق الكمال الوجودي للمدرِك.
يتضح من هذا التحليل أن مفهوم الشر ينطبق على نطاق محدد من النقائص والحاجات، والتي تتمثل في حرمان الموجود من كماله الضروري.
يمكن تصنيف الشر إلى ثلاثة أنواع رئيسية: الشرور الطبيعية التي تحدث في الكون، والشرور الإنسانية التي تُعرف أيضًا بالشرور الأخلاقية، لأنها تنبع من إرادة الإنسان الحرة، والشرور الميتافيزيقية التي تتعلق بالنقص الكامن في طبيعة الموجودات. الشر، بهذا المعنى، يرتبط بالإرادة الإلهية وتدبير الكون، وبالتالي لا يمكن فصله عن دلالته الميتافيزيقية والدينية. لا يمكن إيجاد حل لمشكلة الشر من منظور وضعي أو طبيعي فحسب، بل يجب علينا استحضار كل من البعد الأفقي (المادي) والبعد العمودي (الغيبي) في تحليلنا، على غرار ما ذكره طه عبد الرحمن.
ثانيًا: تحديد معضلة وجود الشر
واجه الفلاسفة واللاهوتيون في الماضي التساؤلات المتعلقة بوجود الشر، ويمكن تلخيص وجه الإشكال في هذه المسألة في ثلاث نقاط رئيسية، يمكن صياغتها في الأسئلة التالية:
- لماذا يوجد الشر في الأساس؟
- وكيف يمكن أن يصدر الشر عن كائن هو الخير المطلق؟
- أين هو الله من كل هذه الشرور التي تعج بها الدنيا؟
– لماذا يوجد الشر؟
يحاول هذا السؤال البحث عن الأسباب، والعلل، والحكم الكامنة وراء وجود الشر، وهو ما يشغل بال العقل الفلسفي والعقل الكلامي على حد سواء. ومع ذلك، يجب أن نوضح أن التعميم في السؤال عن سبب وجود الشر قد ينحرف بنا عن محاولة الفهم والتفسير إلى نمط آخر من التفكير، وهو الاستدلال بوجود الشر لنفي وجود الخالق أو نفي وجود الله سبحانه وتعالى. وبالتالي، يتحول السؤال هنا من طلب المعرفة إلى الاستنكار بهدف إثارة الشبهات.
لكن ذلك لا ينبغي أن يثنينا عن التعامل مع هذا السؤال بجدية، وروية، ومزيد من التعقل، خاصة عندما تصدر مثل هذه التساؤلات عن جيل الشباب المعاصر الذي يحتاج إلى إجابات مقنعة تحترم تساؤلاته وطريقة تفكيره.
لقد استشكل الفلاسفة مسألة وجود الشر، سواء في الطبيعة الكونية أو في الطبيعة الإنسانية. فصدور الشر عن الإنسان (أو الشر الأخلاقي) لا يتماشى مع فكرة كونه كائنًا أخلاقيًا. فكيف لكائن عاقل ومسؤول أن يتسبب في الألم لنفسه أو لغيره؟ هذا الاستشكال يرتبط بالإرادة الإنسانية، ويفترض وجود تناقض بين إرادة الإنسان الحرة والأخلاقية من جهة، وصدور الشر عنه من جهة أخرى، الأمر الذي يستدعي البحث عن تفسير مقنع.
أما بالنسبة للشر الطبيعي أو الشر المنسوب إلى قوة عليا أسمى، فإنه يثير تناقضًا من نوع آخر. فكيف يمكن لصاحب الإرادة الخيرة والأسمى أن يصدر عنه الشر؟ وهذا نقاش يدور حول صفات الإله وإرادته.
أما علماء الكلام، فقد واجهوا أسئلة وإشكالات تتعلق بتفسير أفعال الله تعالى في الكون من جهة، وأفعال الإنسان من جهة أخرى. وهذا يتصل بأفكار العدل الإلهي، والتكليف، وحرية الإنسان ومسؤوليته عن أفعاله، والإيمان بالقدر خيره وشره. وسأوضح لاحقًا المباحث المتصلة بمشكلة الشر من منظور علم الكلام.
– كيف يصدر الشر عمن هو خير مطلق؟
ينطوي هذا السؤال على وجود تناقض منطقي داخلي بين خيرية الله تعالى (بصفاته الحسنى) من جهة، ووجود الشر في العالم من جهة أخرى، فالخير لا يمكن أن يصدر عنه شرور، كما أسلفنا.
– أين الله من هذه الشرور في العالم، مثل الحروب، والمجاعات، والكوارث، والظلم؟
يثير هذا السؤال إشكالًا كلاميًا وأخلاقيًا يتلخص في أنه إذا كان الإله خيرًا وموجودًا، فلماذا لا يتدخل لإزالة الشر، طالما أن علمه محيط بالموجودات وقدرته شاملة؟
وقد دفع هذا الإشكال بعضهم إلى اعتبار وجود الشر دليلًا على نفي وجود الله سبحانه وتعالى، بحجة أن وجود الشيء من دون لوازمه غير ممكن. فلو كان الله موجودًا، لكان من اللازم أن يزيل الشر بقدرته وعلمه المحيطين وإرادته الخيّرة. ولو كان الإله خيّرًا حقًا، لما رضي بهذا الظلم ولتدخل لنصرة المظلومين. ومن ثم، فإن وجود الشر يستلزم عدم وجود الإله.
يمكن في الواقع اختزال الأسئلة الثلاثة السابقة إلى إشكالين مركزيين:
- الإشكال الأول يتعلق بتصورات البشر عن الله تعالى، أو الصورة الذهنية التي يحملونها عن الله. هل مصدر هذه الصورة هو العقل المحض أم الشرع؟ خاصة وأننا نتحدث هنا عن مسائل ميتافيزيقية تتعلق بعالم الغيب. وهل يمكن أن نخضع صورة الله تعالى لقوانين الإنسان ومعاييره وتقييماته؟ هل يجب على الله تعالى شيء، فضلًا عن أن يخضع لقوانين العقل البشري وتقييماته؟ هنا يبرز الإشكال الكبير في تشبيه الله بخلقه، أو قياس الخالق على المخلوق، الأمر الذي من شأنه أن يلغي الفوارق الجوهرية بينهما.
- الإشكال الآخر يتعلق بتصوراتنا نحن البشر عن الإنسان نفسه وموقعه في هذا الكون. هل هو حاكم أم محكوم؟ وهل هو خالق أم مخلوق؟
ثالثًا: مشكلة الشر في النقاشات التاريخية
أدت مشكلة الشر تاريخيًا إلى ظهور مجموعة من الأفكار والمعتقدات التي حاولت تجاوزها بصورة أو بأخرى، بل دفعت بعضهم إلى إنكار وجود الصانع قديمًا. من بين تلك المعتقدات، على سبيل المثال، الثنوية التي قالت بوجود إلهين للتخلص من مشكلة الشر، إله للخير وآخر للشر، بغية تجاوز التناقض المشار إليه سابقًا.
وقالت المسيحية بفكرة الخطيئة الأصلية التي هي أصل الشرور. وفي الإسلام، ذهب المعتزلة إلى القول إن العباد يخلقون أفعالهم، معتقدين بذلك أنهم قد حلوا مشكلة الشرور الإنسانية. بينما ذهب الأشاعرة إلى أن الله خالق كل شيء، ولكن العباد يكتسبون أفعالهم، فميزوا بين الخلق والكسب (الفعل غير المؤثر)، لإثبات السببية والتأثير لله وحده.
الواقع أن مشكلة الشر هي صياغة حديثة لمجموعة من الأسئلة القديمة التي تم بحثها تاريخيًا من مداخل مختلفة، أبرزها أربع مسائل أساسية:
- التحسين والتقبيح: فثنائية الحسن والقبح هي نفسها ثنائية الخير والشر، وهي تبحث في التقييمات الأخلاقية الكبرى ومصدر تحديدها.
- علل الشرائع أو أسباب التكليف التي تحاول الإجابة عن سؤال: لماذا كلفنا الله وهو يعلم أن بعضنا سيكفر ومن ثم سيُعذب؟ وهو سؤال يتصل بإثبات وجود الخالق من جهة، ولهذا قال القاضي عبد الجبار المعتزلي "للجهل بوجه التكليف تدرج الملحدة إلى نفي الصانع". ويتصل بإثبات النبوات والحكمة من إرسال الرسل من جهة أخرى. لهذا، تعرض بعض الفلاسفة والمتكلمين لمناقشة هذه المسألة في سياق إثبات النبوات. ومن الإجابات المقدمة على السؤال عن علة التكليف أن مقصود الله تعالى من التكليف تعريض المكلف إلى درجة لا تنال إلا بالتكليف (المعتزلة)، وأن مقصوده تعالى استصلاح العباد في الدارين، وهو الجواب الذي ساد لدى عامة العلماء وبنيت عليه فكرة مقاصد الشريعة في ما بعد، بل إن من مقتضيات الحرية الإنسانية والاختيار أن يبين الله تعالى لعباده طرق الخير والشر: {رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل}.
- مبحث الآلام: قال القاضي عبد الجبار المعتزلي "للجهل بوجه الآلام وقبحها ضل كثير من الناس، واعتقد بعضهم أن الآلام كلها قبيحة والملاذ كلها حسنة فقالوا بفاعلَيْن: فاعل للملاذ وفاعل للآلام". وقد بحث المتكلمون إيلام الأطفال وإيلام الحيوان أيضًا، لأن ذلك يدخل ضمن دائرة الشرور ويثير أسئلة كلامية وأخلاقية.
- ومما يتصل بمشكلة الشر كذلك البحث في خلق الأفعال، والبحث في معاني الأسماء والصفات الإلهية ومقتضياتها، مثل الرحيم، والجبار، والمنتقم.
توضح هذه المباحث أن مشكلة الشر تتصل بحقول علمية مختلفة. منها ما يناقش الجوانب النظرية التي تتصل بالتصورات حول الله والكون والإنسان، مثل علمي الكلام والفلسفة، وخاصة فلسفة الدين. ومنها ما يناقش جوانب عملية تتصل بسلوك الإنسان تجاه الشر، مثل علمي الفقه (الصلاة، والدعاء، والصدقة عند البلاء، والمصائب، والكوارث) والتصوف (البحث في الفضائل، والتوبة، ومقامي الصبر والرضا).
رابعًا: أوجه الإشكال في فهم الشر والمفاهيم الأساسية لحل المعضلة
تتجلى أوجه الإشكال في الأسئلة الثلاثة السابقة التي شخصتُ من خلالها مشكلة الشر (لماذا يوجد الشر؟ وكيف يصدر عمن هو خير مطلق؟ وأين الله من هذه الشرور؟) في ستة أمور رئيسية، يمكن تلخيصها فيما يلي:
- الأسئلة الثلاثة السابقة تفترض أن وجود الشر مطلق، وأنه خال من أي معنى أو مصالح. فهي تجزم بعدم وجود حكمة من وجود الشر الجزئي، مع أن هذا غير ممكن، لأن الإنسان غير مؤهل للإحاطة بالصورة الكلية. وبالتالي، فإن علمه قاصر ولا يحيط إلا بجزء من الصورة. ومن ثم، يمكن التمييز نظريًا على الأقل بين الشر المحض والشر المسوغ الذي ينطوي على مصالح (التداوي المستلزم للإيلام، والعدل الذي يقود إلى القصاص، وغير ذلك). فالشر هو شر من جهة، وخير من جهة أخرى أو جهات أخرى، ومن هنا فإن المفاسد لا تتمحض.
- الأسئلة الثلاثة السابقة تفترض أن وجود الله مرهون فقط بوجود الخير، وهذا يقود إلى الجبر ونفي الحرية الإنسانية. فماذا عن إرادة الإنسان الحرة التي تقتضي إمكان فعل الشر واختياره، وبالتالي وجوده أيضًا؟ {فألهمها فجورها وتقواها}.
- الأسئلة السابقة تهمل حقيقة أن ما يحرك الإنسان ليس التفكير الفلسفي والعقلي فحسب، بل الانفعال أيضًا الذي يقود إلى التسخط، ويضعنا في مواجهة مسألتي الفضائل والرذائل للنفس الإنسانية. فمشكلة الشر ليست مشكلة فلسفية أو فكرية فقط، بل هناك بعد نفسي وعاطفي خفي وراء بعض الأسئلة حول الشر، خاصة من قبل من مسه الشر. ومثل هذا يجب أن يُحتضن ويُسرَّى عنه، لا أن يناقش فلسفيًا. وقد أبرز القرآن الكريم الجانب النفسي بوضوح، ومن ذلك، على سبيل المثال: {إذا مسه الشر جزوعا}، {وإذا مسه الشر كان يؤوسا}، {وإذا مسكم الضر ضل من تدعون إلا إياه}، {وإذا مسه الشر فذو دعاء عريض)، {وأما إذا ما ابتلاه فقدر عليه رزقه فيقول ربي أهانن}، {ومن الناس من يعبد الله علىٰ حرف ۖ فإن أصابه خير اطمأن به ۖ وإن أصابته فتنة انقلب علىٰ وجهه خسر الدنيا والآخرة}.
- الأسئلة السابقة تتجاهل البعد الغيبي والإيماني. فالإيمان بالقدر خيره وشره هو أحد أركان الإيمان بالله تعالى، والإيمان بالبعث والجزاء يحل الكثير من هذه المشكلات. فالسعي لفهم الشر وفق الأسئلة الثلاثة السابقة تمحور حول موازين الحياة الدنيا فقط، وافترض أن النجاح، واللذة، والسعادة الحقيقية إنما تكون في هذا العالم الدنيوي. وقد حاول القرآن باستمرار تفنيد ذلك، ولفت النظر إلى أن الحياة الحقيقية والسعادة الحقيقية إنما هي في العالم الآخر، لأن الدنيا دار ابتلاء وامتحان وليست دار بقاء، والنعيم المقيم هناك.
- الشر هو نقيض الخير، وبمعرفة النقيض تتضح الأمور. فوجود الشر ضروري لإبراز وإدراك الخير نفسه، وإدراك الخير والشر معًا ضروري للسعي نحو تكميل النفس ومجاهدتها. وهذا يكمل فكرة الاختيار، والمسؤولية، والجزاء. هذه المبادئ هي ما جعل من الإنسان كائنًا مكرمًا وأخلاقيًا.
- الأسئلة الثلاثة السابقة تتمحور حول لوم الإنسان للإله على ما يصيب الإنسان من شرور، في حين أن الإنسان يتحمل مسؤولية الجانب الأكبر من تلك الشرور في العالم. {وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير}، {أولما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنىٰ هٰذا ۖ قل هو من عند أنفسكم}. ولهذا قلنا إن الشرور طبيعية (مثل الكوارث والزلازل وما شابه ذلك) وإنسانية (صادرة بفعل الإنسان المختار). وحتى في الشرور الطبيعية، فإن تصرفات الإنسان في الكون تتسبب في بعضها على الأقل (علوم أخلاقيات البيئة تبحث في مسؤولية الإنسان عن الفساد والتحولات المناخية، على سبيل المثال).
لفهم معضلة الشر من المنظور الإسلامي، لا بد من الإحاطة بثلاثة مفاهيم كبرى في رأيي:
- الشرور استثناء، فالأصل هو الخير. وقد قلنا إن الخير متعلق بالوجود، والشر متعلق بالعدم. كما أن الشرور نسبية، فالآلام مثلاً – وهي من الشرور – إنما تَحسن وتَقبح لا لذاتها. وقد أوضح القاضي عبد الجبار المعتزلي مثلاً أن الآلام قد تكون للمكلف وقد تكون لغير المكلف. فالآلام التي للمكلف تَحسن بأن يكون لها عِوَض (ثواب)، وأن تكون للاعتبار (أي أخذ العبرة)، سواء كان هذا الاعتبار للمتألم نفسه أو لغيره أو له ولغيره جميعًا. أما الآلام التي لغير المكلف، فتَحسن بالعوض له وبأن يكون فيها اعتبار للمكلف. ويمكن الاستشهاد هنا بحديث: "لتؤدن الحقوق إلى أهلها يوم القيامة، حتى يقاد للشاة الجلحاء من الشاة القرناء" (رواه مسلم). وقد ذهب أهل السنة إلى أن الله خالق كل شيء وفعال لما يريد، وهذا انعكاس لعلمه وقدرته ومطلق إرادته. ولهذا لا يَقبح من الله شيء، لأنه مالك الجميع، ولا يجب عليه حكم في حق شيء، فلا يترتب عليه تعالى حسن ولا قبح، ولا يلزم أن يكون خالق الشر شريرًا، فالشر مفعوله لا صفته، كما قال الإمام ابن قيم الجوزية. ثم إن الشر لا يوجد ابتداء وقصدًا، فالشر الطبيعي غير مقصود بالخلق، لأن له حِكمًا ومسوغات وينطوي على خيور نافعات. والشر الإنساني (أو الأخلاقي) إنما هو نتيجة لأفعال العباد واختياراتهم. فالشرور ليست شرورًا لذاتها بل إضافية، وهي شر بالنسبة لبعض الناس وليس بالمطلق. وبناءً على ما سبق، فإن الله تعالى لم يخلق ما هو شر من جميع الوجوه.
- مفهوم الابتلاء والوجود الغائي. فالله تعالى خلق أصنافًا من الخلق: صنف مجبول على الخير وهم الملائكة، وصنف مجبول على الشر وهو الشيطان، وصنف لا خير فيه ولا شر كالبهائم، وصنف جامع بين الخير والشر وهو الإنسان. وتكريم الإنسان إنما وقع لأجل أن لديه القدرة على الاختيار. ولذلك، فإن الحياة نفسها والتكليف إنما وقعا لأجل غاية كبرى هي الابتلاء، وهو مفهوم مركزي في القرآن والتراث الإسلامي: {ونبلوكم بالشر والخير فتنة ۖ وإلينا ترجعون}، {الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا}، {ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات ۗ وبشر الصابرين}. وضمن هذا المفهوم الكلي للابتلاء، يمكن أن ندرج الغاية من التكليف وهي استصلاح الإنسان، والعوض والجزاء حيث يتفاوت الناس بناءً على أفعالهم واختياراتهم، وأن الابتلاء سبيل للتربية الأخلاقية أيضًا، لأنه اختبار حقيقي للإنسان وامتحان لفضائله، وخاصة فضيلتي الصبر والشكر عند الشرور والمصائب.
- مفهوم الحرية الإنسانية والمسؤولية، والتي تعكس تكريم الله للإنسان كما سبق، وتقرر فكرتي المسؤولية والجزاء، وهما من أعمدة أي نظرية أخلاقية: {فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره}. والله أعلم.